ينقسم الرواة الثقات من حيث مرتبهم في الضبط والإتقان وأحوالهم في ذلك إلى مراتب ثلاثة :
القسم الأول: قسم موثَّق على الإطلاق؛ دون تفصيل في مروياتهم؛ لأنهم جميعهم في أعلى درجات التوثيق، وكل واحد منهم حجَّة في الحفظ والإتقان، وهؤلاء كابن المسيِّب و الشعبي وابن الزبير وغيرهم من كبار الحفاظ، وأعيان الثقات.
القسم الثاني، وهم ثقات بالاتفاق، لكن فيما رَوَوه من الأحاديث والأخبار تفاوت في الصحة، فما يروونه متأرجح بين حديث صحيح وأصح منه، ، وحديثهم يبقى ضمن دائرة الصحة والقبول، وهؤلاء الثقات نحو: محمد بن خازم أبي معاوية الضرير، ثقة مشهور كان هو (الأثبت) والأحفظ في تلاميذ الأعمش ، وكان داهية في ضبط مروياته؛ كما قال ابن عبدالبر - رحمه الله -: "أجمعوا على أنه كان من أحفظ الناس لحديث الأعمش، وأنه لا يسقط منه واوًا ولا ألفًا"[1]، وقال معاوية بن صالح: "سألت يحيى بن مَعِين: مَن أثبتُ أصحاب الأعمش؟ قال: بعدَ سفيان وشعبة، أبو معاوية الضرير"[2]، لكن حديث أبي معاوية الضرير عن غير الأعمش تكلم فيه النقَّاد وعابوه؛ فهو في الأعمش الاثبت رواية وخفظا وعن غير الأعمش أقل من ذلك حتى تكلم فيه النقاد وعابوه.
قال الشيخ العلامة المحدث عبدالله السعد - حفظه الله وأمد في عمره - عند تفصيله الكلام على أبي معاوية الضرير: "إذا كان شيخُه غيرَ الأعمش عمومًا وعبيدالله بن عمر أو هشام بن عروة خصوصًا، فقد تُكلِّم في حديثه عنهما"[3].
قال عبدالله بن أحمد عن أبيه: "أبو معاوية في غيرِ حديث الأعمش مضطربٌ لا يحفظُها حفظًا جيدًا"[4]، وقال يحيى بن مَعِين: "روى عن عبيدالله بن عمر أحاديث مناكير"[5]، وقال أبو داود: "أبو معاوية إذا جاز حديثُه الأعمشَ، كَثُر خطؤه؛ يخطئ على هشام بن عروة، وعلى إسماعيل - وهو ابن أبي خالد - وعلى عبيدالله بن عمر"[6].
قال الإمام أحمد - رحمه الله -: " يضطرب في أحاديث عبيدالله"[7]، وقال أبو داود لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام بن عروة؟ قال: "فيها أحاديث مضطربة، يرفع منها أحاديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم"[8]؛ فهذا نمذوج من نماذج القسم الثاني من أقسام الرواة الثقات.
القسم الثالث من أقسام الثقات، مَن جرحُهم مقيَّد، فهم ثقات، لكن في مروياتهم تفصيل يصلُ إلى تضعيفِ بعضها أحيانًا؛ فضعفُهم ليس مطلقًا، وإنما مقيدا مع ثبات مكانتهم في الثقات، و هذا القيد تارةً يكون هو :
حال الراوي الثقة :كورود الاختلاط عليه وهو داء الخرف أو ما نطلق عليه اليوم ( الزهايمر ) وتعريفه هو الخلط في القول ، وما في معناه من قبول التلقين، والعمى لمن يغلب عليه اعتماده على كتبه، ونحو ذلك من أنواع التغيُّر المؤثِّر في حال الراوي من حيث ضبطه وحفظه؛ كما هو شأن عبدالرزَّاق بن همام الصنعاني، قال الإمام أحمد: "عبدالرزاق لا يعبأ بحديث مَن سمع منه، وقد ذهب بصره، كان يلقن أحاديث باطلة، وقد حدَّث عن الزهري أحاديث كتبناها من أصل كتابه، وهو ينظر جاؤوا بخلافها منها"[9].
أو الزمان وما في حكمه : ومثاله الراوي الثقة إذا فقد كتبه االتي يحدث منها فإن رواياته قبل فقد كتبه مقبولة ورواياته بعد فقد كتبه لا تقبل إذا كان ممن لا يضبط إلا اذا حدث من كتابه،
ومثاله عبدالعزيز بن محمد بن عبيد الداروردي قالوا عنه: إذا روى الحديث من كتبه، فهو أصح رواياته، قال الإمام أحمد: "إذا حدَّث من كتابه، فهو صحيح"[15]، لكن حديثه عن غيره؛ أي: من غير كتابه، كتحديثه من كتب الآخرين، أو من حفظه فهو يخطئ فيه أحيانًا، وهذا قيدٌ مهم في الحكم على مروياته، قال الإمام أحمد: "إذا حدَّث من كتب الناس وهِم، وكان يقرأ من كتبهم فيخطئ"، وقال أبو زُرْعَة: "سيئ الحفظ، فربما حدَّث من حفظه الشيء فيخطئ"[16]، و ما يرويه عبدالعزيز الداروردي عن عبيدالله بن عمر، وقد تفرد به فهو حديث منكر، كما ظهر للنقاد من تتبع رواياته عنه.
قال النسائي عن الداروردي: "ليس به بأس، وحديثه عن عبيدالله منكر"[17]،
أو بحسب حالهم في الرواية عن مشايخهم ، وهذا أيضًا من أنواع القيود التي يقيَّد بها ضعف الراوي الثقة، وهو الضعف المقيد بالشيوخ؛ ومثاله: جعفر بن برقان الجزري، قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "يُؤخَذ من حديثه ما كان عن غير الزهري، فأما عن الزهري فلا"[10].
وأيضًا كمثل سِمَاك بن حرب الذهلي البكري إذا عن عكرمة روى الحديث ففيه نظر.
قال الشيخ عبدالله السعد - حفظه الله وأمد في عمره -: "حيث وثَّقه ابن معين، قال: أبو حاتم: صدوق ثقة، وقال ابن عَدِي: "ولسِمَاكٍ حديث كثير مستقيم إن شاء الله.. وأحاديثه حسان، وهو صدوق لا بأس به"، وأما إذا روى عن عكرمة ففي حديثه عنه نظر[13]، وقال شعبة: "كانوا يقولون لسماك: عكرمة عن ابن عباس، فيقول: نعم"، وقال علي بن المديني: "رواية سماك عن عكرمة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين"[14].
(أو المكان) وهو من أنواع القيد التي يقيَّد بها ضعف الراوي الثقة، وهو الضعف المقيد بالبلدان؛ ومثاله: معمر بن راشد الأزدي، حديثه بالبصرة فيه اضطراب كثير؛ لأن كتبه لم تكنْ معه، وحديثه باليمن جيد[11]،
فهذا هو القسم الثالث من أقسام مراتب الرواة الثقات
ويعتبر القسم الثاني والثالث من هذه الأقسام، أنفس العلوم في علم الرواة لأنه يتطلب فطنة لأحوال الرواة وما طرأ عليها من تغير لأي سبب من الأسباب يخرجهم من رتبة الثقة إلى رتبة أدنى منها وربما إلى رتبة الضعف لا ضعفا مطلقا وإنما خاصا بروايات بعينها ، فالثقة هنا في هذه الأقسام يبقى ثقة لا تتزحزح منزلته ومرتبته إجمالا ولكن ينتبه لما طرأ عليه فغيّٓره وغيّٓر حاله وعلى أساس ذلك تغير الحكم عليه مع ذلك الطارىء الحادث كما بينا في الأمثلة أعلاه، ولهذا يعتبر العلم بمراتب الرواة الثقات وإتقانه أنفس علوم الحديث فمن أتقنه كانت له اليد الطولى في معرفة الحديث صحيحه من سقيمه وكان ملما بعلم العلل أدق علوم الحديث.
كما قال ابن رجب - رحمه الله -:
"معرفة مراتب الثقات وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف، إما في الزيادات، وإما في الوصل والإرسال، وإما في الوقف والرفع، ونحو ذلك، هو الذي يحصل من إتقانه وكثرة ممارسته الوقوفُ على دقائق علل الحديث"[12].
قال إدريس الصغيوار:
وقد نظمت قواعد مراتب الثقات ميسرة ملخصة مختصرة معصورة مسكرة في أبيات للحفظ أقول فيها :
وقسَّموا الثقات في الإجمالِ
ثلاثةً أتتْ بذا المقالِ
قسم موثَّقٌ على الإطلاقِ
وثابتٌ في الضبطِ باتفاقِ
كابنِ المسيِّبِ كذا الشعبيُّ
وابنِ الزبيرِ ذلك التَّقِيُّ
وبعدَهم فيما رَوَوا تفاوتُ
بين صحيحٍ وأصحَّ يثبتُ
نحوَ ابنِ خازمٍ أبي معاويهْ
في الأعمشِ الأثبتُ كان دَاهِيهْ
لكنْ حديثُه لغيرِ الأعمشِ
فيه كلامٌ عَابَه ففتِّشِ
وفي عُبَيدالله أو هشام
مضطربٌ فيما روى كلام
وبعدهم مَن جرحُهم مقيَّدُ
فضعفُهم بقيدِه يحدَّدُ
والقيدُ حالهم أو الزمانُ
أو مَن رووا عنه أو المكانُ
كمثلِ سِمَاكٍ إذَا عن عكرمهْ
روى ففيه نظرٌ قد وسمهْ
كذا الدارورديُّ قالوا إن روى
من الكتاب فأصحُّ ما روى
لكنه مِن غيره أو حفظهِ
يخطئُ أحيانًا وذا اعتبرْ بهِ
وعن عبيدالله ما تفرَّدَا
به فمنكرٌ حديثُه بدَا
ومثلُ ذا كثيرٌ في الثقاتِ
وأنفس العلوم في الرواةِ
قد حاز شأوًا في علومِ العللِ
مَن كان في استذكارِه كالجبلِ
=====================
[1] الكنى (2/ 768).
[2] الجرح (7/248).
[3] معرفة مراتب الثقات؛ للشيخ عبدالله السعد 26، وهذا الباب والذي بعده إلى "باب في قواعد التلقين" منظومٌ من كتاب معرفة مراتب الثقات للشيخ عبدالله السعد، أصله من كتاب شرح علل الترمذي، وقد أثبتُّ في شرح الأبيات نقول المحدِّث عبدالله السعد لتوضيحِ معنى الأبيات، فإليه المرجع فيما نقل من كلام الأئمة؛ لأن المراجع التي ذكرها لا تطولُها يدي.
[4] الجرح (7/ 247).
[5] الجرح (247)
[6] سؤالات الآجُرِّي 477.
[7] شرح علل الترمذي؛ لابن رجب الحنبلي 2/270.
[8] مسائل الإمام أحمد لأبي داود 301.
[9] انظر: كتاب "ضوابط الجرح والتعديل"؛ لشيخنا الدكتور العبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم العبداللطيف - رحمه الله رحمة واسعة - ص (12- 62)، ففيه تفصيل نافع في هذا المبحث الهام.
[10] ضوابط الجرح والتعديل 12.
[11] ضوابط الجرح والتعديل ص 12 وما بعدها.
[12] شرح علل الترمذي (2/471).