لَم يُرغِّب القرآن الكريم المسلمين في الاستزادة من شيءٍ سوى من العلم؛ فقال - سبحانه -: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].
كما حَثَّهم على التفقُّه في الدين؛ فقال - سبحانه -: ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].
وقد عجَّت السُّنة المُطهَّرة بأحاديثَ تَعِد طالب العلم بالجزاء الجزيل؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سلَك طريقًا يَلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة))[1]، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على عِظَم طلب العلم، وعِظَم أجْره.
مما لا شكَّ فيه أنَّ أفضل العلوم العلمُ الذي يَجمع بين خيري الدين والدنيا، ومن هذه العلوم علم الحديث، وقد قال - سبحانه -: ﴿ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾ [الإسراء: 71].
"وليس لأهل الحديث مَنقبة أشرف من ذلك؛ لأنه لا إمامَ لهم غيره - صلى الله عليه وسلم"[2].
هذا العلم الذي نَفَر للتفقُّه فيه رجالٌ من هذه الأُمة، وسَهِروا على تَنْقية سُنة الحبيب المصطفى من كلِّ الشوائب التي شابَتها، وبلَغوا من الخبرة والإتقان في هذا المجال، إلى درجة أنهم كانوا إذا سَمِعوا الحديث، عرَفوا صحته من ضَعْفه، وعِلَّة راويه، فكان لهم السَّبق على غيرهم من الأُمم في هذا المجال، وتفرَّدوا به عن سواهم، ووضَعوا له قوانين دقيقة، وكُتبًا قَيِّمة.
ومن أبرز هؤلاء الرجال، فارس من فرسان الحديث، وأستاذ من أساتذته، ألَّف في هذا العلم وعُمره لا يتجاوز الثامنة عشرة عامًا، وهو محمد بن إسماعيل البخاري، وفيما يلي ترجمة مُقتضبة لهذا النجم الساطع، الذي وصَفه الإمام مسلم بأنه طبيب الحديث في عِلَله.
هو أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري الفارسي - رحمه الله - كانت ولادته ببخارى عام 194هجرية"[3].
لقد ظهَر نبوغ البخاري في الحديث مُذ كان صغيرًا، فعُرِف بسرعة حِفظه، وسَعة فَهمه، وطول صبره، وصفاء ذِهنه، وكثرة ارتحاله لطلب العلم، وفي هذا يقول عن نفسه: "دخَلتُ الشام ومصر والجزيرة مرتين، وإلى البصرة أربع مرات، وأقْمتُ بالحجاز ستة أعوام، ولا أُحصي كم دخَلت إلى الكوفة وبغداد مع المُحدِّثين"[4]، وكان كثير التردُّد على شيوخ الحديث؛ سواء في بلده، أو البلدان المحيطة بها، إلى أن عرَف أساليب الحديث ومتونه، وفيما يخصُّ الرجال أرَّخ لهم في زمان ومكان ولادتهم ووَفاتهم، حتى برَع في هذا، وزال عنه كلُّ غموضٍ، وقد كان شيوخه يَهابونه، حتى قال عنه شيخه محمد بن سلام الكندي: "كلما دخَل عليّ هذا الصبي تحيَّرتُ، والْتَبَس عليّ أمرُ الحديث ولا أزال خائفًا"[5].
قصَد البخاري مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، فوجَدها فرصة مُواتية؛ ليَسمع من أئمَّة الحديث في هذا البلد، وقرَّر بعدها البقاء في المدينة المنورة لطلب الحديث، وعند بلوغه سنَّ الثامنة عشرة من عمره، صنَّف أوَّل كتابٍ له، وفي هذا يقول عن نفسه: "لَما طعَنت في ثماني عشرة سنة، صنَّفت "قضايا الصحابة والتابعين"، ثم صنَّفت "التاريخ الكبير" في المدينة عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليالي المُقمرة"[6].
لقد كان البخاري - رحمه الله - لا يُجارى ولا يُبارى في حِفظه للحديث؛ سواء سندًا، أو مَتنًا، إضافة إلى تمييزه للصحيح من الضعيف والسقيم، فجمَع بين المهارة والبراعة في الفن، وقوَّة الحفظ، وقد دخَل مرَّة "سمرقند"، واجتمَع بأربعمائة من علماء الحديث، فامْتَحنوه بأن خلَطوا له بين الأسانيد والمتون، فأرجَع كلَّ حديثٍ إلى إسناده، وما استطاعوا أن يَأخذوا عليه ولا زَلَّة واحدة في متنٍ ولا سندٍ، فما كان لهم إلا أن اعْتَرفوا له بالفضل، كما ذُكِر عنه أيضًا أنه كان بمجرَّد أن ينظرَ إلى الكتاب نظرةً واحدة، يَحفظه[7].
أمَّا فيما يخص الأمصار الإسلاميَّة التي شدَّ رِحاله إليها ليَسمع من شيوخها، فكثيرة؛ حيث زار مكة، وبغداد، والبصرة، والكوفة، والشام، وعسقلان، وحمص، ودمشق، وغيرها، فسَمِع من عفان، وبمكة من المقرئ، وبالبصرة من أبي عاصم، والأنصاري وبالكوفة من عبيدالله بن موسى، وبالشام من أبي المغيرة والفريابي، وبعسقلان من آدمَ، وبحمص من أبي اليمان، وبدمشق من أبي مُسهر - شيئًا.
وصنَّف وحدَّث، وما في وجهه شعرة، وروى عنه: الترمذي، ومحمد بن نصر المَروزي، وجزرة، ومطين، وابن خُزيمة، وأبو قريش محمد بن جمعة، وابن صاعد، وابن أبي داود، والفربري، وأبو حامد بن الشرقي، ومنصور بن محمد البزدوي، والمحاملي، وخلائق[8].
دخل البخاري - رحمه الله - غِمار التصنيف منذ حدَاثة سنه؛ حيث كان أوَّل مُصنَّف يُصنِّفه هو عندما بلَغ الثامنة عشرة عامًا، ومن أشهر الكتب التي صنَّفها: "قضايا الصحابة والتابعين"، و"التاريخ الكبير"، و"التاريخ الأوسط"، و"التاريخ الصغير"، و"الأدب المفرد"، و"القراءة خلف الإمام"، و"بر الوالدين"، و"خلق أفعال العباد"، وكتاب "الضعفاء"، و"الجامع الكبير"، و"المسند الكبير"، و"التفسير الكبير"، وكتاب "الأشربة"، وكتاب "الهِبة"، و"أسامي الصحابة"، وكتاب "الوحدان"، وكتاب "المبسوط"، وكتاب "العلل"، وكتاب "الكُنى"، وكتاب "الجامع الصحيح"، وهو أجَلُّ كُتبه نفعًا وأعلاها قدرًا[9].
وقد تتَلمذ على يديه، وسَمِع منه خلْقٌ كثير، وروى عنه المشاهير، وهذا كأبي عيسى الترمذي، وأبي حاتم، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، وابن أبي الدنيا، وأحمد بن عمرو بن أبي عاصم[10]، وأبي الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري، وغيرهم.
لقد أثنى على الإمام البخاري - رحمه الله - غيرُ واحدٍ، بل غير جماعة من العلماء والمحدِّثين الكبار، واعترَفوا له بالسَّبق والفضل، وعرَفوا قدْره ووَزنه العلمي، وخاصة في معرفته للأسانيد، وحِفظه الغزير لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال عنه الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: "ما أخرَجت خراسان مثله، وقال ابن المَديني: لَم يرَ البخاري مثل نفسه، وقال محمود بن النضر بن سهل الشافعي: دخلتُ البصرة والشام والحجاز والكوفة، ورأيتُ علماءها كلَّما جرى ذِكر محمد بن إسماعيل البخاري، فضَّلوه على أنفسهم، وقال أحمد بن حمدون القصار: رأيتُ مسلم بن الحجاج جاء إلى البخاري، فقبَّل بين عينيه، وقال: دَعْني أُقبِّل رِجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيِّد المحدِّثين، وطبيب الحديث في عِلله، قال الترمذي: لَم أرَ بالعراق ولا بخراسان في معنى العِلل والتاريخ، ومعرفة الأسانيد - أعلمَ من البخاري، وقال ابن خُزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلمَ بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحفظَ له من محمد بن إسماعيل البخاري"[11].
لكن بالرغم من شهادة كلِّ هؤلاء العلماء الأجِلاَّء، فإن البخاري لَم يَنجُ من قومٍ أرادوا به شرًّا، كما هو دَأْب كثيرٍ من الناس في كلِّ زمان ومكان، فكانت بداية مِحنة البخاري - رحمه الله - عندما أرادَ أمير من الأمراء أن يأتِيَه؛ ليُعلِّم أبناءَه، ويَسمعوا منه، غير أن البخاري لَم يوافق على هذا الطلب ورفَضه؛ وهذا لأنَّ مَن أراد العلم أتاه، فما سُمِّي طالب العلم بهذا، إلاَّ لأنه يطلب العلم حيث كان، فبَقِي هذا الأمر في نفس الأمير، فصادَف ذلك أن جاء كتاب من محمد بن يحيى الذُّهلي بأنَّ البخاري يقول بأنَّ لفظَه بالقرآن مخلوق، فحاوَل أن يَصرف الناس عن السماع منه، إلى أن وصَل به الأمر إلى أن يأمُر بنفْيه من تلك البلاد، فخرَج منها واتَّجه إلى بلدة يقال لها "خَرْتَنْك"، وهي على مسافة فرسخين من سمرقند، فنزَل عند أقارب له بها، وبعد أن رأى الفتن، دعا الله أن يَقبضه إليه غير مفتونٍ، فقد جاء في الحديث: "وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً، فتوفَّنا إليك غير مفتونين".
فاستجابَ الله له، وكان مرض موته، فتوفَّاه الله ليلة الفطر عند صلاة العشاء، وصُلِّي عليه يوم العيد بعد الظهر من سنة ست وخمسين ومائتين، وكان عمره يوم مات: اثنتين وستين سنة[12].
فرَحِم الله هذا الإمام الجليل الذي ذبَّ عن سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر رَمقٍ من حياته، وأبَى أن ينصاعَ وراء مُغريات الدنيا وفِتَنها، ولَم يَرحل إلاَّ بعد أن أدَّى واجبه على أتَم وجهٍ، وأكمل صورة، وخلَّف وراءه أعظمَ صدقة جارية يُمكن أن يخلفها مسلم، وأجَلَّ تَرِكة يَتركها مؤمنٌ.
المصدر : موقع الألوكة بإشراف د. سعد الحميد
[1] انظر: صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء، والتوبة والاستغفار، باب فضْل الاجتماع على تلاوة القرآن والذِّكر.
[2] التوشيح في شرح الجامع الصحيح؛ لجلال الدين السيوطي؛ تحقيق: رضوان جامع رضوان، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، ط1، 1419 - 1998، ص (6).
[3] شروط الأئمة الستة؛ لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، وأبي بكر محمد بن موسى الحازمي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1405 - 1984، ص (10).
[4] الحديث والمحدثون؛ لمحمد محمد أبو زهرة، طبع الرئاسة العامة لإدارات البحوث، ط2، 1404 - 1984، ص (354).
[5] مجلة الأمة، شوال 1402هـ، ص (50).
[6] المرجع نفسه، ص (50).
[7] انظر: الحديث والمحدثون، ص (354).
[8] صحيح البخاري؛ لمحمد بن إسماعيل البخاري، قام على نشْره وقدَّم له: علي بن حسن الحلبي الأثري، الزهراء للإعلام العربي، طبعة 2006م، ج (1/ 9 - 10).
[9] الحديث والمحدثون، ص (356).
[10] انظر: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها؛ إعداد أبو بكر كافي، دار ابن حزم، ط1، 1421 - 2000م، ص (45).
[11] الحديث والمحدثون، ص (354 - 355).
[12] انظر: البداية والنهاية؛ لأبي الفداء الحافظ بن كثير الدمشقي؛ تحقيق: أحمد أبو ملحم وآخرين، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1405 - 1985، مج (6)، ج (11/ 30).