تتفاوت العلوم من حيث محتواها المعرفي وما يتطلبه من جهد لاكتسابه وإتقان فهمه وحفظه واستيعابه ، فلكل علم أهله .
بشكل عام يبقى الاجتهاد في التحصيل هو حجر الزاوية في اكتساب العلوم ، فالجد في الطلب والانتظام بالمنهجية في التحصيل والاستمرارية عناصر كافية لاكتساب العلم مع الزمن، هذا من حيث العموم .
لكن تمت علوم لها خصوصيتها المعرفية من حيث طبيعة المحتوى وكم المعلومات الذي تزخر بها ، وتركيبها الاصطلاحي ومفاهيمها المتداخلة وما تتطلبه من حفظ متقن وتأمل دقيق وفهم ثاقب لاستيعاب ما فيها من قواعد واصول تبدو للناظر أول وهلة غاية في التعقيد .
فالعلوم البحتة نموذج لهذا الأمر ، فعلم الأحياء ليس كعلم الطب ولا هو كعلم الفلك ولا كعلم الرياضيات والفزياء النظرية ، واذا قارنا هذه العلوم جميعها بعلم ميكانيكا الكم وفزياء الجسيمات نجد البون شاسعا جدا فما تتطلبه ميكانيكا الكم من أهلية عقلية لامعة وعمق تأمل لفهمها أكبر بكثير مما تنطلبه العلوم الأخرى.
ويمكن القول إن هناك علوم حتى مع الاجتهاد المتفاني ، قد لا يقوى المرء على اكتسابها ليس لأنه قاصر عن فهمها لقصور ذكائه ولكن لأنها تتطلب نوعا خاصا واستثنائيا من الذكاء بما في ذلك مالا يمكن اكتسابه ، كقوة الإلهام مثلا.
فمعظم النظريات التي وضعت لتفسير سلوك المادة في الكون ولا سيما في الكوانتيوم (ميكانيكا الكم) ، هي نظريات وليدة علم راسخ في هذه العلوم من جهة وذكاء إلهامي خارق له قدرة على تصور حالات محددة هي ما يفسر سلوك المادة على نحو محددة، وكمثال على ذلك ما توصل إليه ماكس بلانك من أن الإليكترون يغير مستواه حين يتحفز بعامل من العوامل ثم يعود الى مستواه الأصلي داخل الذرة قاذفا بكم ثابت من الطاقة ، ثم تمكن ماكس من حسابها من خلال تردد موجة الفطونات التي يطلقها الإليكترون وثابت كوني سماه ثابت بلٱنك.
هذا النوع من الافتراض ، يقوم أساسا على نوع من الذكاء الإلهامي الخاص، هذا الإلهام يقوم على عصارة من نمط التفكير التي تعود عليها المرء في حياته فأصبحت لديه ملكة تفسير سلوك الأشياء والحكم عليها بطريقة هو نفسه لا يقوى على شرح كيف استطاع فعل ذلك .
هذه المقدمة على طولها كان لابد منها لفهم مكانة علوم الحديث في العلوم الإسلامية ولماذا هي علوم تتطلب عقولا ألمعية لفهمها واستيعابها وتطبيقها عمليا.
لعلك تلاحظ نقصا حادا في علماء الحديث المتمرسين على تطبيقه وتقريب علومه، حاول ان تفكر في عددهم كم هم في مدينتك مثلا؟!! إذا كنت تظن أن هذه العلوم ليس لها مكانة فأنت مخطىء ، فمكانتها راقية في العلوم حتى أنها العلوم الوحيدة التي حاول المستشرقون اقتحام قلعتها .. لكن الحقيقة أنها علوم تتطلب نمطا خاصا من التفكير لفهم دقائقها ، فمن الناحية النظرية هناك كم هائل من الدكاترة والمؤلفين في علم الحديث لكن التمكن فيها بالتمرس على علم التضعيف والتصحيح (التخريج) عمليا هو الأمر الذي يستعصي على كثير من المتخصصين ، ذلك أن علم الحديث علم موسوعي يتطلب نظريا استيعاب وحفظ قواعده ونصوصه ورجاله ، وعمليا يتطلب توظيف القواعد على النصوص والرجال تطبيقا محكما يتطلب من المحدث فهما دقيقا ونظرا ثاقبا لكل قاعدة واستثناءاتها ولكل راو وأحواله ، ولكل حديث وما يحتف به من قرائن ، فهذه الأهلية بالحفظ الشمولي او الضبط للكتب والنظر الدقيق ، والفهم الخارق هي ما يعطي للمحدث ملكة يقوى بها على تمييز الحديث المقبول من المردود وإن ظهر للناس خلاف ذلك حسب القواعد نفسها ، فالمسألة أشبه ما تكون بميكاميكا الكم ، في غالبها تتعارض مع ظاهر القواعد العلمية (كتقرير سلوك الاليكترون داخل الذرة حين يتنقل من مستوى الى اخر دون قطع اي مسافة ) وهو امر لا يقبله العقل لأنه خلاف القواعد إذ كيف ينتقل ولا يقطع أي مسافة ؟!!!وقس عليه التشابك الكم بغرائبه وغيره، وكذلك في علم الحديث حين يضعف المحدث حديثا رواته ثقات أثبات ومتنه متوافق مع أصول الشريعة، فهو أمر ايضا لا يقبله العقل لأنه خلاف القواعد إذ كيف يكون الحديث ضعيفا وكل شروط الحديث المقبول تنطبق عليه كما يظهر للناظر.
لذلك لن تجد محدثا نجح في نقد الحديث عمليا إلا وهو صاحب عقل ألمعي فوق العادة ، ولو تأملت في طريقة تبويب البخاري في صحيحه مثلا لوجدت دقة في الاستنباط الفقهي فاق بها الفقهاء وقس على ذلك الدارقطني وكيف كان لغويا واديبا وشاعرا وعالما بالقراءات . فلا يبلغ المحدث مكانة الناقد بمجرد حفظه للمتون والأسانيد ولا بمجرد علمه بالقواعد الحديثية والتأليف فيها ولكن بفهم ثاقب ونظر دقيق يجعله يرى الحديث بعقل إلهامي يفترض معه الصحة أو الضعف بنظرة شمولية لكل حيثيات الرواة واحوالهم في حياتهم ولا يغره ظاهر الحديث وكلام من حكم عليه بصحة او ضعف.
فمن الأمثلة البسيطة على ذلك : أن سعة اطلاع المحدث على الأحاديث تعطيه في مسيرته العلمية تذوقا لنمط الكلام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبمجرد قراءته الحديث يوقن أن هذا الأسلوب ليس من أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا تأمل في رجال السند لمح فيهم رجلا فقدت كتبه لفترة وجيزة ثم استردها وهو يتقن فقط حين يحدث من كتبه، فتتقوى في نفسه فكرة نقد الحديث واستشكال صحته ، وهكذا يعمق البحث حتى يتكون في نفسه يقين بضعف الحديث ، كل هذا وما جمعه من انتقادات هي أمور يصعب عليه شرحها للعامة كما يتخيلها هو في عقله بينما أمثاله من النقاد يفهمون مستند حكمه وهو مستند من اللطف والخفاء في غاية النهاية . إنه الذكاء الإلهامي الذي ترى به عين العقل ما لاتراه العين في الوجه، ولذلك درج المحدثون على القول : علمنا هذا كهانة لمن لا يعرفه.
هذا النمط من التفكير هو ما ميز المحدثين قديما وحديثا ، وهو نمط ينم عن ذكاء خارق متواز مع علم راسخ بالقواعد والنصوص والرجال والأحوال.