لكن إثباته في الراوي العمدْ
نحو سعيدِ بن أبي هلالِ
لم يَثبتِ اختلاطُه بحالِ
إذ قيل عنه: إنه قد اختلطْ
وأحمدُ بنُ حنبلٍ قال: خلطْ
وليس حالُه كحالِ المُختلطْ
وإنما في حفظِه لم ينضبطْ
ومَن يكُ اختلاطُه مؤثِّرَا
يُرَدُّ ما رواه مُذْ تغيَّرَا
وقُيِّد الرَّدُّ بما فيه الغلطْ
وليس ما تُوبِع فيه وانضبطْ
فابنُ أبي عَرُوبةَ الذي اختلطْ
روى له البخاري غيرَ الغلطْ
إذ انتَقَى ما قد روى وتُوبِعَا
فيه وما قبل اختلاطِه معَا
وقد رَوَى لابن أبي عديِّ
عنه بجبرِ تابعٍ مرويِّ
ومثلُه روْحٌ كذا الأنصاري
ومثل ذا تراه في البخاري
وبعضُهم بعد اختلاطِهِ منعْ
فلم يحدِّث أبدًا بما سَمعْ
نحو اختلاطِ الثقفيِّ ذكرُوا
امتناعَه إذا شابَهُ التغيُّرُ
وبعضُهم حدَّث لكن نادرَا
نحو سنيد عن حجاج ذُكرَا
وبعضُهم قد شَابَهُ اليسيرُ
من اختلاطٍ ما له تأثيرُ
نحو حُصَينٍ وثَّقوه واختلطْ
ولم يؤثِّر فيه الاختلاطُ قطّْ
===================
شرح الأبيات:
ووصفُ) الراوي (بالاختلاط ليس عليه المعتمد)؛ إذ قد يوصف الراوي بالاختلاط، ولا يصح ذلك عنه، (لكن إثباته)؛ أي: إثبات الاختلاط (في الراوي)، هو الذي عليه (العمد) في الحكم عليه بالاختلاط؛ كـ(نحو سعيد بن أبي هلال) الليثي مولاهم، (لم يَثبُت اختلاطه بحال) من الأحوال؛ (إذ قيل عنه: إنه قد اختلط)، والذي قال عنه ذلك ووصفه به هو الساجي، وعزا إلى الإمام أحمد بن حنبل وصفَه لسعيد بن أبي هلال بأنه اختلط[1]، وإنما الإمام (أحمد بن حنبل) قال في سعيد: (خلط)، ولم يقل: اختلط، ونص عبارة أحمد - رحمه الله -: "ما أدري أي شيء حديثه؟ يخلط في الأحاديث"[2]، وقال ابن حجر - رحمه الله -: "وشذَّ الساجي، فذكره في الضعفاء، ونقل عن أحمد بن حنبل أنه قال: ما أدري أي شيء حديثه؟ يخلط في الأحاديث"[3]، ووصف الإمام أحمد لسعيد بن أبي هلال بالخلطِ؛ يعني: يخلط في بعض الأحاديث، وذلك لا ينزل به عن درجة التوثيق، ولا يجعله مختلطًا[4]، وقد وثَّقه جمع من النقاد، فـ(ليس حاله)؛ أي: حال سعيد بن أبي هلال (كحال المختلط) الذي ثبت اختلاطه؛ (وإنما في حفظه لم ينضبط) في بعض الأحاديث؛ حيث خلط فيها كما نص على ذلك الإمام أحمد، وعلى هذا حمل النقَّادُ كلامَه - رحمه الله - فوثَّقوا سعيد بن أبي هلال.
والمختلِط هو مَن طرأ عليه الضعف لكبره، أو فقدان كتبه، أو نحو ذلك، فتغيَّر تغيرًا مؤثرًا في مروياته، وهذا الذي تقدَّم قاعدةٌ مهمة من قواعد العلل، فقد يوصف الراوي بالاختلاط وغيرِه من أسباب الطعن، ولا يصح؛ إما لسوء فهم عبارات الأئمة، أو لعدم صحة النقل عنهم، أو لوهمٍ يقع فيه الناقد؛ فلزم لذلك البحثُ في هُوِيَّة الرواة في كتب التراجم، والتثبت مما قيل فيهم حرفيًّا، وحكم عليهم به من الأوصاف؛ احتياطًا من تحريف معنى الكلام ممَّن نقل، وقد تقدَّم تنبيه العلامة المعلِّمي على ذلك في آخر "باب كشف العلة".
(ومَن يكُ) من الرواة (اختلاطه مؤثِّرَا) في ضبطه، بحيث كان اختلاطه فاحشًا غير مروياته؛ فهذا (يُرَدُّ ما رواه) من الأحاديث (مذ تغيَّرَا) حفظه، واختلط اختلاطًا فاحشًا، يرد به حديثه؛ فالمختلطون "متفاوتون في تخليطهم، فمنهم مَن خلط تخليطًا فاحشًا، ومنهم مَن خلط تخليطًا يسيرًا"[5]، (و) لكن (قيد الرد) لرواياته (بما فيه الغلط)، بحيث لم يتابع عليه، (وليس ما) وجد له متابع (وتوبع فيه و) تبين بذلك التابع أن حفظه قد (انضبط) فيما توبع عليه ولم يخالف، وهذه من القواعد المهمَّة في الاختلاط، وهي أن وجود المتابع للمختلط فيما رواه دليلٌ على الصواب، ونافٍ لخطئه في تلك الرواية، وإن بقي وصف الاختلاط لازمًا له؛ (فابن أبي عَرُوبة) وهو سعيد، علمٌ ثقة معروف، وكان هو، وشعبة، وهشام الدستوائي أثبتَ الناس في قتادة، لكن مع هذا (الذي) ذكرنا، فقد (اختلط) هذا الإمام الحافظ لمدَّة طويلة، اختلف عليه فيها، فقال يحيى بن معين: "خلط سعيد بن أبي عَرُوبة بعد هزيمة إبراهيم بن عبدالله بن حسن، سنة اثنين وأربعين؛ يعني: ومائة، ومَن سمع منه بعد ذلك فليس بشيء، ويزيد بن هارون صحيح السماع منه، وسمع منه بواسط، وهو يريد الكوفة، وأثبت الناس سماعًا منه عبدة بن سليمان"[6].
وقد (روى له)؛ أي: لسعيد بن أبي عروبة الإمامُ (البخاري) في صحيحه (غير الغلط)، الذي ورد عنه بعد اختلاطه؛ فأخرج حديثَه قبل اختلاطه، وكذلك أخرج عمَّن سمع منه بعد الاختلاط انتقاءً، (إذ انتقى) من أحاديثه بعد الاختلاط (ما قد روى) من الحديث، (وتوبع فيه)؛ أي: وُجِد له متابع دلَّ على صواب حفظه وانتفاء اختلاطه، (و) أيضًا أخرج له (ما) حدَّث به (قبل اختلاطه معَا)؛ أي ما قبل الاختلاط وما بعده.
(وقد روى)؛ أي: البخاري (لابن أبي عدي)، وهو محمد بن أبي عدي من رجال الصحيحين، أحاديث رواها (عنه بجبر تابع مروي)؛ أي: بمتابعات دلَّت على أن ما رواه محمد بن أبي عدي عن شيخه سعيد بن أبي عروبة مما قد ضبطه ابن أبي عروبة، ولم يختلط فيه؛ فانتفى عنه وصفُ الاختلاط فيما رواه عنه ابن أبي عدي بالمتابعات المروية، (ومثله)؛ أي: مثل محمد بن أبي عدي (روح) بن عبادة[7]، و(كذا) محمد بن عبدالله (الأنصاري)، (و) كذلك (مثل ذا)؛ أي: مثل هؤلاء الرواة ممَّن سمعوا من ابن أبي عروبة بعد الاختلاط؛ (تراه) وتجده (في) صحيح (البخاري)، لكنه منضبط بضابطين اثنين، وهما:
الأول: إما أن يُخرِج لابن أبي عَرُوبة قبل اختلاطه، وهذا أكثر ما أخرج له من حديثه عن قتادة.
الثاني: وإما أن يخرج له بعد اختلاطه؛ فهذا معضود بما يدل على الضبط، وانتفاء الاختلاط بالمتابعات.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "وأما ما أخرجه البخاري من حديثه عن قتادة، فأكثرُه من رواية مَن سمع منه قبل الاختلاط، وأخرج عمَّن سمع منه بعد الاختلاط قليلاً؛ كمحمد بن عبدالله الأنصاري، وروح بن عبادة، وابن أبي عدي"[8].
وقال أيضًا - رحمه الله - ضمن كلامه عن سعيد بن أبي عروبة: "وأما ما أخرجه البخاري من حديثه عن قتادة، فأكثرُه من رواية مَن سمع منه قبل الاختلاط، وأخرج عمَّن سمع منه بعد الاختلاط قليلاً؛ كمحمد بن عبدالله الأنصاري، وروح بن عبادة، وابن أبي عدي، مكرر في الفقرة السابقة فإذا أخرج حديث هؤلاء انتقى ما توافقوا عليه"[9].
قال ابن حبان في بيان محصلة هذه القاعدة: "لأن حكمهم[10] وإن اختلطوا في أواخر أعمارهم، وحمل عنهم في اختلاطهم بعد تقدُّم عدالتهم، حكمُ الثقة إذا أخطأ؛ إذ الواجب تركُ خطئه إذا عُلم، والاحتجاج بما يعلم أنه لم يخطئ فيه، وكذلك حكم هؤلاء الاحتجاج بهم فيما وافقوا الثقات، وما انفردوا مما روى عنهم القدماء من الثقات الذين سماعهم منهم قبل الاختلاط سواء"[11].
وهذا التفصيل هو ما يجري على ما أخرجه البخاري في صحيحه من الروايات عن المختلطين، فالواقع يدل على وجود بعض الروايات عنهم بعد الاختلاط وليس قبله، ولعل هذا ما أشار إليه الإمام ابن الصلاح - رحمه الله - بقوله: "واعلم أن مَن كان من هذا القبيل محتجًّا بروايته في الصحيحين أو أحدهما، فإنا نعرفُ على الجملة أن ذلك مما تميَّزَ، وكان مأخوذًا عنه قبل اختلاطه"[12]، فلعل قوله: (على الجملة) إشارةٌ إلى الاستثناء في بعض الحالات التي وقعت فيها الرواية بعد الاختلاط؛ أي: إن التفصيل يقتضي القول بغير ذلك في كل ترجمة.
ولذلك قال الشيخ عبدالقيوم عبدرب النبي في تعليقه على كلام ابن الصلاح والنووي والعراقي في هذا الشأن - وكلامهم هو ذاته كلام ابن الصلاح -: "وهذا الذي ذكروا من أن كل مَن روى عن المختلِط وأخرج بطريقة صاحب الصحيحين أو أحدهما، فهو ممَّن سمع منه قبل الاختلاط - خلافُ الواقع، ومخالفٌ لما صرح به أئمة الحديث"[13].
وفائدة معرفة هذه القاعدة، ألا يتوهَّم ضعف ما رواه البخاري أو مسلم أو كلاهما في صحيحيهما، بمجرد الوقوف على الرواة المختلِطين، ومَن روى عنهم في الاختلاط من الأسانيد، فإن الإخراج للرواة الذين رَوَوا عن المختلِطين بعد الاختلاط كان بما دلَّ على موافقة الثقات لهم، وبما يدل على انتفاء الاختلاط عنهم في تلك الروايات، والله تعالى أعلم.
(وبعضهم)؛ أي: بعض الرواة الذين اختلطوا (منع) من الرواية (فلم يحدث) الناس (أبدًا بما) كان قد (سمع) من الأحاديث؛ (نحو اختلاط) عبدالوهاب بن عبدالمجيد (الثقفي ذَكروا)؛ أي: النقاد (امتناعه إذ شابه) الاختلاط و(التغير)، قال العقيلي - رحمه الله -: "جَرِير بن حازم وعبدالوهاب الثقفي تغيَّرا فحُجب الناس عنهما"[14].
وقال الذهبي: "لكنه ما ضرَّ تغيُّرُه حديثَه؛ فإنه ما حدَّث بحديث في زمن التغير"[15].
(وبعضهم حدث) بعد اختلاطه (لكن نادرَا) ما وقع منه ذلك؛ (نحو سنيد) بن داود في روايته (عن حجاج) بن محمد المصيصي، الذي اختلط فلم يروِ عنه غير (سنيد)؛ كما (ذكر) في كتب المحدِّثين[16]، (وبعضُهم قد شابَهُ)؛ أي: حصل له الشيء (اليسيرُ من اختلاطٍ)، لكن لم يؤثِّر على مروياته، فـ(ما له تأثير) في توثيقهم؛ (نحو: حصين) بن عبدالرحمن، فقد (وثَّقوه)، فهو ثقة، (واختلط) اختلاطًا يسيرًا، (ولم يؤثر فيه الاختلاط قط)؛ كما ذكر ذلك الإمام علي بن المديني - رحمه الله - فقال: "حديثُه واحد، وهو صحيح، فقيل له: فاختلط؟! قال لا، ساء حفظُه، وهو على ذلك ثقة"، ومثله سعيد بن أبي إياس الجريري، كان قد اختلط قبل أن يموت بثلاث سنين، "ولم يكن اختلاطه فاحشًا؛ فلذلك أدخلناه في الثقات"[17]، والله تعالى أعلم.
[1] التقريب (2423).
[2] تهذيب التهذيب (2/48).
[3] هدي الساري (406).
[4] انظر معرفة مراتب الثقات ص (38 - 39).
[5] شرح علل الترمذي (2/ 552).
[6] علوم الحديث ص (353).
[7] ذكر ابن حجر في هدي الساري ص (406) سماعَ روح بن عبادة من سعيد بن أبي عروبة بعد اختلاطه، ونقل عن الآجُرِّي في تهذيب التهذيب (4/65) قولَه عن أبي داود: "سماع روح منه قبل الهزيمة"، وقال الإمام أحمد: "وروح سماعه منه صالح"؛ أي: سماعه من سعيد بن أبي عروبة؛ انظر: شرح علل الترمذي ص 327.
[8] فتح الباري (1/406).
[9] فتح الباري (1/406).
[11] الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/121).
[12] علوم الحديث ص 356.
[13] الكواكب النيِّرات في معرفة مَن اختلط من الرواة الثقات؛ ص 131.
[14] الضعفاء للعقيلي (1/199).
[17] الثقات (6/251)، وانظر: معرفة مراتب الثقات ص 41.