الدرس الأول: التقوى صوم رمضان من أعظم أسباب زكاة النفس والروح، فمن صامه إيمانا واحتسابا زكت نفسه وطابت وتسامت عن الرذائل والمعاصي، فزكاة النفوس وطهارتها واحدة من أعظم مقاصد صوم رمضان, كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُ لعلكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183].
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن الناصر السعدي - رحمه الله - : فذكر الله تعالى للصوم هذه الفائدة العظيمة، المحتوية على فوائدكثيرة وهي قوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي: ليكون الصيام وسيلة لكم إلى حصول التقوى، ولتكونوا بالصيام من المتقين, وذلك أن التقوى اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من فعل المحبوبات الله ورسوله، وترك ما يكرهه الله ورسوله.
فالصيام هو الطريق الأعظم الحصول هذه الغاية الجليلة التي توصل العبد إلى السعادة والفلاح. فإن الصائم يتقرب إلى الله يترك ما تشتهيه نفسه من طعام وشراب وتوابعها تقديما محبة الله على محبة النفس (1).
وتحصيل هذه الغاية وهي تقوى الله - جل وعلا - هو أول درس على الصائم أن يعيه جيدا من مدرسة رمضان، فالصائم المؤمن المحتسب في صومه لا يجعل طموحه وهمته في تحصيل التقوى ممدوداً بأيام رمضان، وإنما مهمته أعلى من ذلك، ونيته أزكى وأخلص من ذلك.. فهو يصوم رمضان بنية تجديد العهد مع الله ... عهد العبودية الخالصة التي تصوم به الجوارح عن الآثام والمخالفات ما بقي في الجسد نفس.
فرمضان للمؤمن الصادق موسم يجدد فيه تقواه لله، يمسح بها أدران الذنوب.. ويجدد فيها العهد ويتوب.. ويعزم عزما أكيدا علىل امضي في طاعة الله حتى يأتيه اليقين، فهذا هو المؤمن الذي وعى من رمضان غايته وفقه من مدرسته درسه، فلم يجعل خوفه من الله مقتصراً على شهر؛ بل امتد به خوفه أبد الدهر.
الدرس الثاني: قيام الليل تراه حريصا على القيام وصلاة التراويح في رمضان.. فإذا انقضى رمضان لم يغفل مع الغافلين...وإنما بقي على حاله يحيي ليله - أو ما شاء الله منه - في الصلاة والذكر والاستغفار .. لأنه لما قام رمضان إيمانا واحتسابا تذوق حلاوة القيام.. وخرج منه بأطيب نفس.. وأشرح صدر.. فلم يكن ليزهد في خيره بعد ما تذوق حلاوته.. ولم يكن ليتركه وهو يعلم أن فيه شرفه وعنده تقضي حاجته.. ويجاب سؤاله.. ويستغفر ذنبه.
فقيام رمضان.. علمه الحرص على القيام بعد رمضان.. فالقيام في رمضان وفي غيره شرف المؤمن وكفران لذنوبه، وسبب لنيل الدرجات العلا والمقام المحمود, كما قال تعالى : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةٌ لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء : 179.
الدرس الثالث: تدبر القرآن ومن قراءة القرآن في رمضان يأخذ الصائم الصادق دروسا بليغة تهديه إلى الحق، وتدله على أبواب الخير، وتزيد من إيمانه بالله جل وعلا، فإذا تذوق من تلاوة كتاب الله تلك الثمرات أحب التلاوة، وجعلها وردا لا يخل به بعد رمضان؛ لأنه أدرك تأثيرها على روحه واستقامته، وهداه، فرمضان كما هو موسم يتفرغ فيه المؤمن لتلاوة القرآن، فهو أيضا فرصة، مدرسة تذكر المؤمن بحاجته الماسة إلى وسائل التذكير التي تذكره بالله، وأولها وأسماها كتاب الله {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنْ لَهُمْ أَجْرًا كبيرًا } [الإسراء: 19.
فليست قراءة المؤمن للقرآن منحصرة في رمضان، وإنما هي ممتدة إلى ما بعده باقية ما بقيت حاجته إلى التذكير، وهل حاجته إلى ذلك تزول ؟!
فشَهْرُ رمضان مدرسة القرآن، وفيه أنزل كما قال تعالى: رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } [البقرة: 185]، ولذلك كان رسول الله م يتدارس القرآن مع جبريل في رمضان، كما صح عند البخاري ومسلم.. لكنك لو تأملت في سيرة النبي p وحاله مع القرآن لوجدته - بأبي هو وأمي - أكثر الناس حرصا على تلاوته، وتدبره، وحينما سئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه قالت: (كان) حلقه (القرآن) فلم يكن حاله العناية بمدارسة القرآن في رمضان فقط، وإنما كان في شهر رمضان أكثر مدارسة وتلاوة للقرآن من غيره.. أفلا لتجعل لحن أيضا من رمضان منطلقا التدبر القرآن.. وبداية للحرص على ورده، والمداومة على تلاوته، والتخلق بأخلاقه أوليس قد أمر الله بتلاوته وتدبره في رمضان وفي غيره فقال: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب } ؟! [ ص: 129
فلماذا يجتهد معظم الناس في التلاوة في رمضان ثم يهجرون القرآن بعده طيلة السنة ؟!
الدرس الرابع الإخلاص ومن مدرسة رمضان يتعلم المؤمن
الإخلاص، وصلاح النية والطوية، فصومه الله في رمضان سر بينه وبين الله، وفيه يتجلى معنى الإخلاص في أوضح معانيه.. ولذلك كان جزاء الصوم عند الله عظيمًا؛ لأنه سر بين العبد وبين ربه, قال تعالى في الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أحب عند الله من ريح المسك» (2) .
فالجزاء العظيم الذي أخفاه الله للصائم إنما هو بسبب إخلاصه الله، وكونه ترك شهوته وطعامه الله، ولو شاء أن يفطر ويتظاهر بالصيام لفعل، ولما علم بحاله أحد إلا الله، لكنه لما أخلص وراقب الله وحده في صيامه، نال ما ناله من الجزاء والثواب بغير حساب.
وفي هذا المشهد درس للصائم يتعلمه من مدرسة الصيام؛ ليجعل عبوديته الله بكل مفرداتها وأنواعها وأشكالها خالصة لله وحده, كما قال تعالى : {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام: 162 163)، وكما قال سبحانه: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14].
والعبادة تشمل كل الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة التي يرضاها الله سبحانه، فكما أن بالإخلاص ينال الصائم ذلك الأجرالعظيم، فكذلك إخلاصه في سائر العبادات في رمضان وغيره سبب لعظم الأجر وجزيل الثواب عند الله، وهذا الخلق القلبي (الإخلاص) الذي لا تصح العبادة إلا به يعد من أبلغ الدروس التي يتعلمها الصائم من دروس رمضان، وأكثرها أهمية ونفعًا لدينه ودنياه.
=====================
(1) الرياض الناظرة للشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي.
(2) رواه البخاري ومسلم.