شعار التلفزيون الرمضاني
00:00 / 00:00

الأسرار الرمضانية

بِسْــــــــــــــــمِ اﷲِالرَّحْمَنِ الرَّحِيم

 

طبيعة التشريع الإسلامي انه لا يدعو لعمل إلا لما فيه مصلحة عائدة علينا، ولا يحذر من شيء إلا لمضرة لاحقة بنا.
أطردت هذه الخاصية في مسائل التشريع الإسلامي، وتناثرت إزاء قضايا العبادات والمعاملات، والأحوال الشخصية، والجنايات.
وإذا حاولنا في هذه العجالة أن نقدم نموذجا واحدا لهذه القاعدة، فلا غنى لنا أن ننتزعه من الظروف التي يكتب فيها، وان نجعله يتناول جملة من أسرار هذا الصيام الذي يغمر المسلمين في أرجاء العالم الإسلامي.
ولا شك أن الغاية الأولى من تشريع هذه الشعيرة : هي تربية نفس المؤمن على الاستقامة في شهر رمضان، وتدريبه على هذه الخصلة الكريمة بعد رمضان، وتمرينه عليها في حياته كلها، وأحواله جميعها، حتى يكون – في حياته الخاصة – إنسانا كاملا، وفي المجتمع الإنساني عضوا نافعا.
هذه هي حكمة الصيام التي يبشر بها الإسلام في هذه الآية :(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون..)
فهذه الآية الكريمة تبين أن الغاية من صيام رمضان تربية المسلم على التقوى، وتعويده المواظبة عليها. وقد وضح هذه الحكمة غير واحد من فقهاء التشريع الإسلامي فقال الفخر الرازي في تقرير الوجه الأول لتفسير تلك الآية :((أنه – سبحانه – بين بهذا الكلام : أن الصوم يورث التقوى، لما فيه من إنكسار الشهوة وانقماع الهوى، فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش،  ويهون لذات الدنيا، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين، وخفت عليه مئونتهما، فكان ذلك رادعا له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهونا عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى)).
وكما يفسر الرازي آية الصيام بهذا الوجه كذلك يشرح به البيضاوي حديث ((من لم يدع قول الزور والعمل به)) ويقول :
((ليس المقصود من شريعة الصوم نفي الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة، للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول)).
ولمكان هذه الغاية السامية من الصيام، يتوجه الرسول -صلوات الله عليه وآله- إلى الصائم فيرشده إلى الابتعاد عن المخالفات أثناء صومه، وينصحه في هذه الكلمات النبوية الغالية:
((الصيام جنة، فإذا كان احدهم صائما فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين)).
ولنفس الغاية يعظم الرسول (ص) أن يتعمد الصائم مخالفة أو يرتكب إثما، ويندد بمن ينحرف عن هذه الجادة في الصيحة التالية:((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
فهذا الحديث وما تقدمه : كل ذلك يؤكد الحكمة المتوخاة من صيام رمضان، ويعلن أنها لا تعدو تزكية نفس المومن وتطهيرها بالتقوى، وقد بالغ ابن حزم في تقرير هذه الحكمة حتى أفرط –على حد تعبير فتح الباري – فقال : يبطل الصيام كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه، سواء كانت فعلا أو قولا، استنادا للحديثين الآنفي الذكر، والجمهور – وان حملوا النهي على التحريم – إلا أنهم خصوا الفطر بالمفطرات المادية.
وهذه حكمة ثانية يهدف إليها الشارع في الصوم : وهي تعويد المؤمن الصبر على المشاق، وتوطيد نفسه على الصمود أمام المكاره، فإن في الصوم الصبر على مضض الجوع والعطش وترك الشهوات والمخالفات، والصائم الذي يعود نفسه الصبر على هذه الأشياء خليق بأن يتدرب على الصبر في رمضان وفي غير رمضان، وجدير بان يعتاد هذا الخلق الذي هو اكبر عدة الإنسان للتغلب على مصاعب دينه ودنياه.
وهناك أكثر من شاهد على اعتبار هذه الحكمة في الصيام، فلقد سمى الرسول (ص) رمضان شهر الصبر، ووصف في حديث أبي هريرة الصيام بأنه نصف الصبر.
كما أن الصابرين في الآية:((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)) هم الصائمون في أكثر الأقوال
وقال أبو عبيد في نفس حديث ((الصيام لي وأنا اجزي به)) إن الصوم هو الصبر وقد قال تعالى ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)).
فهذه أربعة شواهد ناطقة باعتبار حكمة الصبر في الصوم، وعلى هذا يكون الصيام هنا وسيلة للتمرن على الصبر، كما كان في الحكمة الأولى طريقا للاستقامة
وسر ثالث يكمن في هذه الشعيرة وهو إذكاء شعور الصائم الموسر بواجبه نحو إخوانه الفقراء الذين يعيشون – دائما – في شبه صيام، فتتعطف نفسه عليهم، وتنطلق يده بالإحسان إليهم، حتى يعتاد العطف على المحتاجين، ويألف الإحسان إليهم، وقد جاء التلميح لهذه الحكمة في الحديث الشريف الذي يسمى رمضان :((شهر المواساة)).
ومن التطبيقات العملية لهذه الخصلة أن الرسول (ص) كان في رمضان يضرب الرقم القياسي للجود الذي يفوق على جوده في غير رمضان.
كما أن تشريع زكاة الفطر تطبيق مثالي لهذه الحكمة.
يضاف لهذا: التطبيقات الأخرى التي كان الرسول (ص) يدعو لها بواسطة الترغيب في إفطار الصائمين.
الحكمة الرابعة ترويض المؤمن على خصلة الشكر فإن في الصوم شكرا للمنعم الأعظم على نعمة الصحة كما يشير لهذا حديث ((لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم)).
كما أن صيام رمضان شكرا وتذكارا لنعمة نزول القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان
فمن هذه الحكمة الرابعة وما قبلها يتبين أن المسلم يرتاض في صيام رمضان على أربع خصال : استقامة- صبر- إحسان- شكر.
ويضاف إلى هذه الأسرار الروحية سر خامس مادي، وهو ما ينطوي عليه الصيام من فوائد صحية عديدة أصبحت موضوع عناية أطباء الغرب في هذا العصر، وقد بلغت العناية بأفراد منهم إلى أن يخصصوا هذا الموضوع بتأليف على حدة، ونشير هنا إلى كتابين وضعهما دكتوران غربيان :
الأول الدكتور اوتوبو خنجر، وقد وضع كتاب ((التداوي بالصيام وأصول الاستعانة به)) طبع في ألمانيا عام 1935 في صحائف 194، وقد وصف فيه الصيام تاريخيا، ثم تأثيره الصحي على الدم، والغدد، والطحال، والكبد، والكلي، وضغط الدم، والإفرازات الداخلية، والجلد، والشعر.. ثم يداوي بالصيام عشرات من الأمراض الجسمانية، والعصبية والعقلية.. وينتقل إلى تأثيره الروحي وتقويته للإرادة.
الثاني الدكتور ماك فادن الأمريكي، مؤسس المصحات المعروفة باسمه : ألف ((كتاب الصيام)) وقال فيه :((انه بعد تجارب عديدة في زمان طويل، تحقق عنده أن أحسن دواء لجميع الأمراض –تقريبا- هو الصيام، مع الهواء النقي، والماء والشمس، قال :
وقد عالجت بالصيام- مع ما ذكر- كثيرا من المرضى فشفوا كلهم، ثم ذكر الأمراض تفصيلا،وأقام البرهان بالأرقام، وهكذا حتى ذكر أمراضا كثيرة ثم قال :
إن الصوم يؤثر في شفاء الأمراض على درجات، بعضها أعلى من بعض فجميع أمراض الدم تجيء في الدرجة الأولى، فالصوم يشفيها قطعا.
ثم ذكر بقية أنواع الأمراض ودرجاتها في التأثر بالصوم، واستثنى بعض الأمراض كالسل فقال: لقد عالجت المسلولين- أيضا- بالصوم وأمور الطبيعة كالشمس والهواء، والماء فنجح العلاج في أربعة منهم، ومع ذلك لا انصح المسلولين بالصوم.
وهذا الصوم الذي يعالج به الدكتور ماك فادن ليس هو الصيام المشروع عند المسلمين، بل هو أشد منه، فانه ينبغي للمريض أو المستصح أن يستعمل دواء مسهلا يفرغ به معدته من الفضلات قبل أن يبدأ الصيام، ولا يتناول في صومه شيئا من الطعام كيفما كان نوعه، ولو عصيرا أو أتايا، واقل الصيام عنده يوم وليلة، وأكثره خمسة وعشرون يوما، فمرض الروماتزم مثلا يحتاج إلى خمسة وعشرون يوما، وهو يبيح شرب الماء في صيامه.
وذكر فصلا لما سماه بالصيام الجزئي: وهو أن صوم الإنسان أقل من يوم وليلة، وذكر له فوائد كثيرة في شفاء بعض الأمراض، والتخفيف من شدة وطأة بعضها، وقال:
إن الصيام الكلي يحتاج إليه كل إنسان لتصفية جسمه من سموم الأغذية والعقاقير التي تجتمع فيه، والصوم- وحده- هو الذي يصفي الجسم، ويزيل منه تلك السموم، وليس المريض فقط هو الذي يحتاج إلى الصيام..))
هكذا يعمل الدكتور ماك فادن، ومن قبله الدكتور أوتو خنجر لتحليل فوائد الصيام الصحية، ولتوضيح المعنى المادي الذي يراه أطباء الغرب في الصوم.
وأن هذا الموضوع كان –أيضا- موضع اهتمام من أطباء العرب المعاصرين، ونذكر منهم بالخصوص الدكتور المسلم محمد توفيق صدقي الذي قال في كتابه الجليل ((سنن الكائنات)) ما يلي:
((إن الصوم- عن الطعام- نافع في أمراض المعدة، والأمعاء، والكبد، والكلي، وحصواتهما، والنقرس، والروماتزم، والحميات، وأمراض القلب، وغير ذلك.
إلا أن الغلو فيه له ضرره، ولذلك نص الشارع (ص) : على وجوب الاعتدال في كل شيء، ونهى عن صوم الدهر، وعن الوصال في الصيام، واستحب السحور وتأخيره، وتعجيل الفطر، قال (ص) لمن نهاه عن كثرة الصيام والقيام : ((إن لبدنك عليك حقا)).
ومما يخفف ضرر الصوم عند المسلمين : أنه يباح لهم ليلا ما يحرم عليهم نهارا، فلذلك كان الضرر الناشئ من الضعف في أثناء النهار قليلا أو معدوما، وبجانبه نفع يفوق هذا الضرر كثيرا، وهو إراحة الجهاز الهضمي، والكبد، والجهاز البولي، وإحراق ما في الجسم من الزيادة الضارة، وغير ذلك مما ذكرناه.
هذا كلام الدكتور محمد توفيق صدقي الذي يتمم ثلاث شهادات صادرة عن كبار الأطباء بعوائد الصيام الصحية.

وبعد:فلتكن خاتمة هذا البحث كلمات قيمات، ودرر غاليات، عن فوائد الصيام الروحية والمادية، وقد نشرها ابن القيم في ((زاد المعاد)) في العبارات التالية:
المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، وينكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الاكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه وتلجم بلجامه.
فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئا، وإنما يترك شهوته، وطعامه، وشرابه، من اجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذ ذاتها، إيثارا لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه، لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، واما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من اجل معبوده، فهو أمر لا يطلع عليه بشر ، وذلك حقيقة الصوم.
وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنية، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة له من صحتها. فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من اكبر العون على التقوى، كما قال تعالى :((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) وقال النبي (ص) :((الصوم جنة)) وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه : بالصيام، وجعله وجاء هذه الشهوة. 
والمقصود أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمة لهم، وإحسانا إليهم، وحمية وجنة.

 مصدر المقال مجلة دعوة الحق العدد 57 اضغط هنا

 

 

اشترك في قناتنا على اليوتيوب ❤ × +
ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِين
أحدث أقدم